و دلالتها على النّفي و الإثبات في أسماء الله و صفاته
الحمد لله ربّ العالمين، قيُّوم السّماوات و الأرضين، مُدبّر الخلائق أجمعين باعثُ الرّسل صلواته و سلامه عليهم إلى المُكلّفين لهدايتهم و بيان شرائع الدّين بالدلائل القطعيّة و واضحات البراهين، أحمده على نعمه و أسأله المزيد من فضله و كرمه.
و أشهد أن لا إله إلاّ الله الواحد القهّار، الكريم الغفّار، و أشهد أنّ سيّدنا محمّدًا عبدُه و رسوله و صفيّه من خلقه و خليله، أفضل المخلوقين، المُكرّم بالقرآن العزيز المعجزة المستمرّة على تعاقب السّنين، و بالسّنّة المستنيرة لأصحاب العقول المُتدبّرين، المخصوص بجوامع الكلِم و سماحة الدّين صلوات الله و سلامه عليه و على سائر النّبيّين و المرسلين و على آل بيته الأطهار و صحبه الأخيار و التّابعين لهم بإحسان إلى يوم الدّين.
أمّا بعد
فاعلم أخي رحمك الله أنّ معرفة الله أصل الدين و ركن التوحيد و أوّل الواجبات، فإنّ الرسل بُعثوا لكي يعرف النّاس ربهم عزّ و جل و ركن التوحيد الأساس أن يعرف الإنسان ربَّه فيفرده في ربوبيته و في ألوهيته و في أسمائه و صفاته فهو سبحانه و تعالى المتفرد في الربوبيّة فهو الخالق المالك المدبّر سبحانه جلّ و علا و هو سبحانه المتفرد في الألوهيّة فالمعبود بحقّ هو الله سبحانه و تعالى و هو سبحانه المتفرد في أسمائه وصفاته فله الأسماء الحسنى و الصفات العُليا و مسألة الأسماء و الصفات هي التي تميّز المسلمين عن غيرهم من أصحاب الملل و النحل لأنّ و مسألة الأسماء و الصفات من أعظم القضايا أهمية و دعني أدلل لك على صدق هذا فأقول و بالله التوفيق:
إنّ القارئ للقرآن الكريم يجد أنّ القرآن عرض لنا عقائد غير المسلمين الباطلة وكيف تحجرت قلوبهم وعقولهم ووصفوا الربّ جلّ وعلا بما لا يليق من نقائص وقبائح تعالى الله عمّا يقولون عُلوًّا كبيرا، فاليهود قبحهم الله اتّهموا الله تعالى بالفقر فقالوا كما يحكي القرآن الكريم: (لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء)[181آل عمران]
وقالوا كذبًا و زورًا إنّ الله تعالى من خلق السموات و الأرض و استراح في اليوم السابع فردّ الله تعالى عليهم بقوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ)[ق 38؛39]
واتّهموا الله تعالى بالبخل تعالى الله عمّا يقولون علوًّا كبيرًا فقالوا كما يحكي القرآن: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء) [المائدة 64]
كما ينسبون لله تعالى العجز و الجهل و المرض- تعالى الله عمّا يقولون علوًّا كبيرا- فعندهم في التوراة التي فيها التحريف أنّه:« بينما الربُّ يطوف في الأرض إذ أمسك به يعقوب من حقوه- وسطه – فصارعه فصرعه و لم يتركه يصعد حتى أعطاه لقب «إسرائيل» الذي يفسرونه بـــ «اصرع إيل» أي: الذي صرع الرب، و«إيل» يعني الله و هذا كلام غاية في الضلال و الكفر، فيعقوب إنما كان عبدًالله جلّ و علا غلب نفسه لله عزّ و جلّ و انقاد لشرعه و هذا معنى « إسرائيل» عبد الله و ليس أنّه صارع الربَّ عزّ و جلّ. و ينسبون أيضًا له الجهل فيزعمون أنّ آدم اختبأ منه بعد أن أكل من الشجرة فجعل الرب يبحث عنه، فقال: يا آدم أين أنت ؟ فقال: أنا ههنا فكلّمهو قال: لماذا أكلت من الشجرة ؟ تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرا.
وكذلك ينسبون إليه سبحانه المرض و أنه بعد أن أهلك الأرض بالطوفان حزن حزنًا شديدًا وبكى حتى رمدت عيناه و عادته الملائكة، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرا.
ونسبوا لله الصاحبة والولد كما فعل الضّالون وهم النصارى.قال الله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)[التوبة 30]
كما نسب النصارى قبّحهم الله إلى الله الموت و البكاء و سائر صفات المخلوقين حين قالوا: «المسيح ابن الله» - تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرا – و ذلك أنهم يعتقدون أن المسيح هو الله أو أنه ابن الله أو أنه ثالث ثلاثة و نسبوا إليه أنّه صُلِب و مات و بقي ثلاثة أيام ميتًا ثم قام من بين الأموات، قال الله تعالى: (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)[ المائدة 17]
و كذلك ظنَّ الجاهلية الأولى في أسماء الله و صفاته فإنهم شكّوا في صفة السمع و العلم لله تعالى قال الله تعالى حاكيًا عنهم: (وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَ ذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ)[فصلت 22-23]
و عن عبدالله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: اجتمع عند البيت ثلاثة نفر قرشيان و ثقفيٌّ أو ثقفيان و قرشيٌّ قليلٌ فقهُ قلوبهم كثير شحمُ بطونهم فقال أحدهم: أترون الله يسمع ما نقول ؟ و قال الآخر: يسمع إن جهرنا و لا يسمع إن أخفينا، و قال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا فأنزل الله عزّ و جلّ: (وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ)[فصلت 22-23] [أخرجه الإمام مسلم .2775 وأحمد :3875 بنحوه]
هؤلاء جعلوا البحث في أسماء الله وصفاته مسامرة فأنزل الله في هلاكهم هذه الآية.
من هنا ندرك أنّ مسألة الأسماء و الصفات هي التي تميّز المسلم عن غيره من أصحاب الملل و النِحل فنحن نصف ربّنا بما وصف به نفسه و بما وصفه به عبده و رسوله محمد صلى الله عليه و سلم في سنّته الصحيحة فنثبت لله تعالى كل كمال و كل جمال و كل جلال و ننفي عن ربّنا تعالى كل نقص و نثبت له كمال الضدّ أي أنّنا كمسلمين نثبت لربّنا ما أثبته ربّنا تعالى لذاته في كتابه و ما أثبته له عبده و رسوله محمد صلى الله عليه و سلم في سنّته الصحيحة و ننفي عن ربّنا ما نفاه ربّنا عن ذاته في كتابه أو نفاه عنه عبده و رسوله محمد صلى الله عليه و سلم في سنّته الصحيحة بلا تعطيل و بلا تحريف و بلا تشبيه و بلا تمثيل و نبني آيات الأسماء و الصفات على الأصل المحكم في كتاب الله: (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى 11]
وهذا هو الفارق بيننا و بين غيرنا في هذه المسألة العظيمة مسألة الأسماء و الصفات و هذا ما يظهر عظم و أهمية مسألة الأسماء والصفات. [راجع كتاب المنّة شرح اعتقاد أهل السنة للشيخ الدكتور:ياسر البرهامي حفظه الله ص17 وما بعدها بتصرف طبعة دار الخلفاء الراشدين ودار الفتح الإسلامي]
هذا و من الأدلة على قضية الأسماء و الصفات سورة "الإخلاص" التي هي صفة الرحمن و التي توضح بجلاء الإثبات و النفي في أسماء الله و صفاته و إليك أخي رعاك الله التفصيل:
أولاً: سبب تسمية السورة بسورة الإخلاص:
قال أهل العلم حول مسألة تسمية سور القرآن: و تسمية سور القرآن تارة يكون باعتبار ذِكر "كلمة" في السورة ليست في غيرها "الماعون" سميت بهذا الإسم لورود كلمة "الماعون" بها، أو باعتبار ذِكر قصة في السورة مفصلة أكثر من غيرها كسورة "البقرة" لورود قصة البقرة مع بني إسرائيل عندما سألوا موسى عليه السلام أن يخبرهم عن القاتل فأخبرهم أن يذبحوا بقرة فشدّدوا على أنفسهم بكثرة السؤال حتى شدّد الله عليهم، و تارة باعتبار المعنى الذي في السورة و سميت سورة الإخلاص بهذا الإسم وفقًا لهذا الإعتبار لأنها اشتملت على الإخلاص و اشتمالها على الإخلاص من جهتين:
ــــ الأولى: أنها تورث صاحبها المتدبّر لها القارئ لها الإخلاص العلمي الإعتقادي لأنها صفة الله عزّ و جلّ و لهذا من تدبّر هذا الوصف صار عنده الإخلاص في العلم و الإعتقاد بتوحيد الله في أسمائه و صفاته.
ــــ الثانية: أن السورة أخلصت لذكر صفة الله جلاّ و علا فهي مشتملة على صفة الله جلّ و علا وحده ليس فيها وصف لغيره و ليس فيها خبر عن غيره و ليس فيها قصة و ليس فيها حُكم بل هي وصف لله عزّ و جلّ فقد أخلصت لهذا.
ثانيًا: فضل سورة الإخلاص:
وردت نصوص كثيرة توضح فضل سورة الإخلاص نذكر منها ما يلي:
1 ــــ عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النّبي صلّى الله عليه و سلّم قال:« أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلثَ القرآن؟ قالوا: و كيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال:" قل هو الله أحد" تعدل القرآن»[أخرجه الإمام مسلم وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب والترهيب برقم:1480]
2 ــــ و عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ رجلاً قال: يا رسول الله إني أحبُّ هذه السورة " قل هو الله أحد" فقال:« إنّ حبَّك إيّاها يدخلك الجنّة »[ رواه الترمذي وصححه الشيخ الألباني رحمه الله برقم:2323]
3 ــــ و عن معاذ بن عبد الله بن خبيب عن أبيه قال: خرجنا في ليلة مطيرة و ظلمة شديدة نطلب رسول الله صلّى الله عليه و سلّم يصلي لنا قال: فأدركته فقال: قل، فلم أقل شيئًا ثمّ قال: قل، فلم أقل شيئًا، قال: قل فقلت: ما أقول؟ قال:« قل هو الله أحد و المعوذتين حين تمسي و تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء» [رواه الترمذي وصححه الشيخ الألباني رحمه الله برقم:2829]
4 ــــ و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أقبلتُ مع النّبي صلّى الله عليه و سلّم فسمع رجلاً يقرأ:" قل هو الله أحد الله الصمد" فقال رسول الله صلّى الله عليه و سلّم:" وجبت" قلت: و ما وجبت؟ قال: الجنّة »[ رواه الترمذي وصححه الشيخ الألباني رحمه الله برقم:2320]
5 ــــ و في الحديث قال رسول الله صلّى الله عليه و سلّم:« يا عقبة ألا أعلمك سورًا ما أنزلت في التوراة و لا في الزبور و لا في الإنجيل و لا في الفرقان مثلهنَّ، لا يأتين عليك ليلة إلا قرأتهنَّ فيها:" قل هو الله أحد" و" قل أعوذ بربّ الفلق" و" قل أعوذ بربّ النّاس"» [سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ الألباني رحمه الله برقم:2861]
6 ــــ و عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم بعث رجلاً على سَرِيَّةٍ و كان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـــ" قل هو الله أحد" فلمّا رجعوا ذُكِرَ ذلك لرسول الله صلّى الله عليه و سلّم فقال:« سلُوهُ لأي شيءٍ يصنعُ ذلك» فسألوه فقال:« لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها» فقال رسول الله صلّى الله عليه و سلّم:« أخبروه أنّ الله يُحبُهُ » [رواه البخاري:6940 ومسلم:813 والنسائي في الكبرى:1065/10539]
ثالثًا: سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن لماذا؟
ذكرنا في فضل سورة الإخلاص حديث أبي الدرداء و الذي بيّن فيه النّبي صلّى الله عليه و سلّم أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن و السؤال لماذا؟
ــــ الجواب: ذكر أبو العباس بن سريج أهد أئمة الشافعية و تبعه العلماء على هذا: أنّ القرآن منقسم إلى ثلاثة أقسام:
فهو إمّا خبر عن الله تعالى و صفاته
و إمّا خبر عن الأوّلين
و إمّا أحكام
و قال بعض أهل العلم: إنّه منقسم إلى ثلاثة أقسام:
أحكام و عقائد و وعدٌ و وعيد
و سورة الإخلاص بهذا الإعتبار تعدل ثلث القرآن لأنها تكلّمت عن صفات الله عزّ و جلّ أي عن جانب العقائد.
و كونها تعدل ثلث القرآن هذا يدل على أنها أفضل من بعض القرآن و ذلك لأنها تعدل ثلث القرآن.
و هذا المعنى مما تنازع النّاس فيه و الذي عليه أهل السنّة و الجماعة و هو شبه إجماع بينهم أن كونها تعدل ثلث القرآن يدل على أنها أفضل من بعض القرآن و القرآن بعضه أفضل من بعض كما أن صفات الله تعالى بعضها يفضل بعضًا فقد أخبر النّبي صلّى الله عليه و سلّم في دعائه:« أعوذ برضاك من سخطك » [صحيح ابن ماجة] و أخبر عن ربِّ العزّة جلّ و علا أنّه قال:« إنّ رحمتي سبقت غضبي» [أخرجه البخاري:7554 ومسلم:2751 من حديث أبي هريرة ]
و هذا يدل على أن بعض الصفات أفضل من بعض و كلّها عُليا و أيضًا بعض الصفة قد يكون أفضل من بعضها الآخر و هذا يترتب عليه أن يكون بعض القرآن أفضل من بعضه الآخر و لهذا صارت الفاتحة أعظم سورة في القرآن و آية الكرسي أعظم آية في القرآن و سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن هذا مذهب أهل السنّة و الجماعة في تفضيل بعض صفات الله على بعض و تفضيل بعض القرآن على بعض.
وقال المبتدعة من الأشاعرة و غيرهم إنّ صفات الله لا تتفاضل و كذلك كلامه لا يتفاضل و مذهبهم هذا فاسد و إليك البيان:
فالكلام له بنيتان: الأولى: من جهة المتكلِّم به.
الثانية: من جهة المتكلَّم فيه أي " الموضوع ".
فبالنسبة لكلام الله المتكلِّم به هو الله عزّ وجلّ فمن هذه الجهة لا يتفاضل لأن المتكلِّم به هو الله عزّ وجلّ.
أمّا بالنسبة للموضوع فالقرآن إمّا عقائد و إمّا قصص و إمّا أحكام فمن هذه الجهة يأتي التفاضل فالحديث عن صفات الله تعالى و أسمائه الحسنى أفضل من الحديث عن القصص و الأخبار و كذلك الأحكام و لذلك كانت سورة الإخلاص تفضل على غيرها لأنها تتحدث عن صفات الله عزّ و جلّ و هكذا، فإذن جهة التفضيل موجودة و القرآن بعضه أفضل من بعض و من أنكر ذلك فإنه مناقض لكلام السلف و قد قال الله تعالى: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا)[البقرة:106]
فقد تكون الخيرية في الحكم و قد تكون في الموضوع و الله أعلى و أعلم.
رابعًا: دلالة سورة الإخلاص على الإثبات والنّفي في أسماء الله وصفاته:
قوله تعالى:" قل هو الله أحد" الراجح من كلام المفسّرين في سبب نزولها أنّ المشركين قالوا للنّبي صلّى الله عليه و سلّم انسب لنا ربّك أو انسب لنا إلهك فنزلت هذه السورة " قل هو الله أحد" إذن هذه السورة في بيان صفة الله جلّ و علا.
" قل" أي يا محمد لهؤلاء المشركين "هو" يعني الذي سألتم عنه، "هو الله أحد" و "الله " هذا عَلَم على المعبود بحقّ سبحانه، و قوله "أحد" من الوحدانية و الأحدية جاءت في القرآن تارة منفية و تارة مثبتة، فأمّا المنفية فهي لغير الله تعالى و أمّا المثبتة فهي لله عزّ و جلّ يعني أنّ لفظ "أحد" لم يطلق في الإثبات على غير الله عزّ و جلّ و لكنّه في النّفي- إمّا الصريح أو المضمَّن- فإنه يطلق على غير الله عزّ و جلّ كما قال هنا: «و لم يكن لها كفوا أحد» و قال «و إنْ أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثمّ أبلغه مأمنه ذلك بأنّهم قوم لا يعلمون» [التوبة 6] و نعني بالنّفي المذكور: النفي أو ما يكون في معناه عند البلاغيّين و هو الشرط و الاستفهام و نحو ذلك ففي قوله «و إنْ أحدٌ من المشركين استجارك» هذا شرط له معنى النفي، فإذن كلمة « أحد » أتت في القرآن في سياق النفي أو الاستفهام أو الشرط و هذا لغير الله عزّ و جلّ أمّا في الإثبات فهي لله عزّ و جلّ فلا تُطلق في الإثبات إلاّ لله عزّ و جلّ «قل هو» الذي سألتم عنه «الله أحد» و أحد بمعنى الواحد الذي لم يشركه في شيء في وحدانيّته و أحديّة الله عزّ و جلّ يعني وحدانيّته في: ربوبيّته و الهيّته و في أسمائه و صفاته فهو جلّ و علا واحد في ربوبيّته لا شريك له في الخلق و الملك و التدبير و هو واحد جلّ و علا في إلهيّته لا شريك له فيها أي في استحقاق العبادة، و هو واحد جلّ و علا في أسمائه و صفاته لا مثيل له و لا نظير له و لا كفو و لا سميّ له في أسمائه و صفاته فإذن قوله تعالى:« قل هو الله أحد» هذا يشمل أنواع التّوحيد الثلاثة توحيد الربوبيّة و توحيد الألوهية و توحيد الأسماء و الصفات. ثمّ بدأ سبحانه و تعالى بعض التفصيل لكلمة «أحد» فقال «الله الصّمد» هذا مبتدأ «الله» و خبره «الصمد» و يقول علماء البلاغة إنّ الخبر إذا جاء معرفاً بالألف و اللاّم فإنّه يقتضي الحصر «الله الصّمد» يعني الذي ليس له صمد إلاّ هو «الله الصّمد» يعني الذي لا يستحقّ الصمديّة إلاّ هو يعني هو الذي قُصرت عليه و حُصرت فيه معاني الصمديّة على وجه الكمال، و السؤال الآن: ما معنى الصمد؟
يقول العلاّمة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله في شرح العقيدة الواسطية: المفسّرون من السّلف اختلفوا في تفسيرها على قولين مشهورين و كلّ قول فيه تفاصيل و أيضاً القول منهما يدلّ على الآخر بنوع الدلالة.
ــــ أمّا القول الأوّل: فهو أنّ «الصمد» هو الذي لا جوف له. «الصمد» كما جاء عن ابن مسعود و رويت عنه موقوفة و مرفوعة أيضًا لكن لا يصحّ المرفوع و أيضًا رويت عن ابن عباس و عن جماعة من مفسّري السّلف بأنّ «الصمد» الذي لا جوف له و هذا بمعنى أنّه لا يتخلّل ذاته جلّ و علا شيء بل هو جلّ و علا واحد بالذّات بينما المخلوقات غير الملائكة لها جوف يدخل فيها ما يدخل و يخرج منها ما يخرج و يلدون و يحمل منهم من يحمل و يلد من يلد و يأكلون و يشربون و يتغوّطون و هذه كلّها من صفات النّقص و لهذا فسّرها بعضهم بأنّ «الصمد» الذي لا يأكل و لا يشرب و قال بعضهم «الصمد» تفسيره ما بعده و هو «لم يلد و لم يولد» و هذه كلها في المعنى واحدة و هو أنّ «الصمد» الذي لا جوف له لأنّ الأكل و الشرب يحتاج إلى جوف يمرّ فيه و كذلك الولادة تحتاج إلى جوف أن تخرج من جوف، و الله جلّ و علا «صمد» هذا هو المعنى الأول و لهذا قال ابن قتيبة و ابن الأنباري هذا مأخوذ من «الصَمَت» بالتاء فكأنّ الدّال هنا في قوله «الصمد» مبدلة من التاء من الصمْت أو المصمت من الشيء المصمت و هو الذي لا شيء بداخله. و هذا القول ردّه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى و قال ليس هذا بوجيه بل الأولى أن يحمل هذا على الاشتقاق الأكبر و هذا صحيح لأنّ «الصمد» و الصَمَت يعني المصمت و «الصمد» بينهما اشتقاق أكبر، فبينهما اتصال في المعنى.
ــــ أمّا القول الثاني: و هو أيضًا مروي عن ابن عباس و جماعة كثير من المفسرين من السّلف و من بعدهم أنّ: «الصمد» هو الذي كمل في صفات الكمال و هو الذي يستحقّ أن يُصمَد إليه في الحوائج يعني يُسأل و يُطلب و يُرغب فيما عنده و هو الذي يأتي بالخيرات و هو الذي يدفع الشرور عمّن يصمد إليه. و هذا مروي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في صحيفة التفسير الصحيحة المعروفة حيث قال «الصمد» هو السيد الذي كمل في سؤدده، الشريف الذي كمل في شرفه، العظيم الذي كمل في عظمته، الحليم الذي كمل في حلمه، العليم الذي كمل في علمه. [راجع تفسيرالحافظ ابن كثير رحمه الله لسورة الإخلاص وشرح العلامة محمد خليل هراس للعقيدة الواسطية ص:36 الإدارة العامة للطبع الرياض]
يعني أنّ «الصمد» هو الذي اجتمعت له صفات الكمال و على هذا هو الذي يُصمَد إليه يعني يُتوجه إليه بطلب الحوائج إمّا بجلب المسرّات أو دفع الشرور و المضرّات و هذا معروف من جهة الإشتقاق من جهة الصَّمْد، صَمَدَ إلى الشيء بمعنى توجه إليه و قد جاء في السنّة أنّ النّبي صلّى الله عليه و سلّم:« كان إذا صلى إلى عمود أو إلى سارية لم يَصْمُدْ إليه صَمْدًا و إنّما جعله عن يمينه أو عن يساره » و هذا الحديث استدلّ به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتاب"اقتضاء الصراط المستقيم" في موضع و في اسناده ضعف لكنّ المقصود هنا من الشاهد اللغوي كان «لا يصمد» له بمعنى لا يتوجه إليه صمدًا، يتوجه إليه دون غيره بمعنى يكون مقابلا له متوجهًا له دون سواه، و هذا إنّما هو لله جلّ و علا و حده لا شريك له، أمّا المخلوق فإنّه و إن صُمِدَ إليه بمعنى إنْ تُوُجِّه إليه في الحاجات فهو أيضًا يحتاج إلى أن يصْمُد وأن يَصْمِد إلى غيره ، أمّا الله جلّ و علا فهو الذي كملت له أنواع الصمود و هو أنّه الذي لا يستغنى شيء عن أن يتوجه إليه و عن أن يَصْمِد إليه و هو جلّ و علا مُستغنٍ عن أن يَصْمِد إلى شيء و لهذا فسّرها من فسّرها من السلف قال «الصّمد» هو المستغني عمّا سواه الذي يحتاج إليه كل ما عداه، فسرت «الصّمد» بذلك و هذا يعني أنّ الصمدية راجحة إلى صفة الله أوّلاً ثمّ إلى فعل العبد، يعني العباد هم الذين يصمدون إليه سبحانه.
فإذن على هذين التفسرين يكون قوله «الله الصّمد» فيها صفة الله جلّ و علا ـ القول الأول ـ والثاني فيها أنواع صفات الله جلّ و علا لأنّ معنى «الصمد» السيد الذي كمل في سؤدده، الشريف الذي كمل في شرفه، العظيم الذي كمل في عظمته، يعني «الصَّمَد» من كملت له صفات الكمال و هذا ثابت في حقّ الله و أيضًا على هذا يكون «الصَّمَد» الذي يُصْمَد إليه في الحوائج فيكون على هذا التفسير يكون قد جمعت كلمة «الصّمد» بين توحيد الأسماء و الصفات و بين توحيد الألوهية لأن الذي يُصْمَد إليه وحده في الحوائج، يُرغب إليه وحده، يُطلب منه السؤال وحده، يُحتاج إليه وحده هو «الصَّمَد» و هو الله جلّ و علا و في هذا ردّ على المشركين الذين ألّهُوا غير الله أو وصفوا الله جلّ و علا بصفات النقص تعالى الله عمّا يقولون علوًّا كبيرًا.
و في هذه الآيات إثبات للأسماء الحسنى و الصفات العُليا لله ربِّ العالمين إثبات كل كمال و كل جمال و كل جلال لله وحده لا شريك له.
ثمّ قال بعدها:« لم يلد و لم يولد» و هذا نفي، و قوله « لم يلد» يعني لم يخرج منه ولد فيرثه في ملكه، و قوله «لم يولد» يعني لم يخرج من شيء فيكون هو وارثًا له بل هو جلّ و علا المستحق للملك بذاته، هو جلّ و علا ذو الملكوت، هو صاحب ذلك المستحق له لم يحتج جلّ و علا إلى غيره سبحانه و تعالى عمّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا و هذا النفي في قوله:« لم يلد و لم يولد » لا يكون النفي في أسماء الله و صفاته مدحًا إلا إذا تضمَّن كمال الضدِّ و هنا نفينا عن الله عزّ و جلّ صفتيْن : صفة أنّه يلد و صفة أنه يولد. و هاتان الصفتان هما في المخلوق من صفات النقص لا من صفات الكمال لأنّ المخلوق يحتاج في إيجاده إلى أن يعمل به و يحتاج هو إلى أن يلد حتى يبقى، فإذن كونه ولد و كونه يولد هذه من صفات النقص فيه لأنها دليل على عدم استغنائه، دليل على حاجته، دليل على فقره، دليل على ضعفه و هذا منتفٍ عن الله عزّ و جلّ:« لم يلد و لم يولد» و هذا النفي يُراد به إثبات كمال ضدِّه و كمال ضد هذا النفي هو كمال «غنى» الله عزّ و جلّ:« لم يلد و لم يولد» لِمَ؟ لكمال غناه و لكمال صمديته ـ الذي هو بالمعنى الأول، و لكمال جبروته و لكمال قهره جلّ و علا و لكمال صفاته فإذن « لم يلد و لم يولد» نفي يتضمن إثبات كمال الضدِّ أي يتضمن إثبات صفة «غنى» لله عزّ و جلّ و عدم الإحتياج، بخلاف المخلوقين الذين يحتاجون إلى أن يولدوا و يحتاجون إلى أن يلدوا و هما محتاجون إلى كلتا الجهتيْن في كل مخلوق يلد و يولد.
قال بعدها:« و لم يكن له كفوًا أحد» هذا النفي مجمل و ما قبله إثبات مفصل و هذا أحد الأدلة على أن القرآن فيه النفي المجمل و فيه الإثبات المفصل، أمّا الإثبات المفصل في هذه السورة فهو قوله:«الله أحد» و «أحد» فيها إجمال لكنها باعتبار أفرادها بأنواع التوحيد الثلاثة يكون ذلك مفصلاً و قوله « الله الصمد» ما يشمله من الصفات كذلك باعتبار أفرادها يكون مُفصلاً قوله « و لم يكن له كفوًا أحد» هذا نفي مجمل و أمّا في قوله « لم يلد و لم يولد» فهذا لا يراد به تفصيل النفي و إنّما يراد به إثبات كمال الضِّد و معنى ذلك أن النفي إذا ورد في القرآن مفصلاً فهو محمول على الإثبات المفصل لأن المراد منه إثبات كمال الضِّد و كمال الضّد في قوله « لم يلد و لم يولد» هي صفة « الغنى» التام و أنواع الكمال في الأوصاف و هذا من الإثبات المفصل.
قال هنا:« و لم يكن له كفوًا أحد»، « أحد» هذه اسم يكن« و لم يكن كفوًا له أحد» هذا هو السياق هنا، قال« و لم يكن له كفوًا أحد» نقدم خبر يكن على اسمها لأنه هو المقصود فالمقصود نفي المماثلة نفي أن يكون ثمَّ كفؤ و ليس المقصود الإخبار و هذا من أسرار التقديم فإنّه إذا كان الخبر أهم يقدَّم إذا كان هو المقصود يكون مقدّمًا.
و المعنى« و لم يكن له كفوًا أحد» يعني لم يكن له ندًّا و لم يكن له نظيرًا لم يكن له مثيلاً، لم يكن له سميًّا، « أحد» هنا نكرة في سياق النفي فهي تعم كل من صدق عليه اسم أحد في النفي نعم كل أحد « و لم يكن له كفوًا أحد» يعني من خلقه فلا أحد يكافئه و لا يماثله لا في ذاته جلّ و علا و لا في صفاته و لا في أسمائه فإنّه لا مثيل له و لا نظير و لا مكافئ و لا عِدْل تبارك ربنا و تقدس.
هذا عن منزلة سورة " الإخلاص" التي هي صفة الرحمن فلا عزو إذن أن يتلوها النّبي صلى الله عليه و سلم في كل أحيانه و يحث أمته على ذلك وأسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
كتبه الفقير إلى عفو ربه
أبو أحمد سيد عبد العاطي بن محمد
إمام و خطيب الجمعية الإسلامية بالسارلند ساربروكن ألمانيا
غفر الله له و لوالديه و لزوجه و ولده و للمسلمين والمسلمات